من عايشَ اللحظات الأولى لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019 لن ينسى أثرَها الكبيرَ على نفوس الكثيرين. فمن ساحاتِ النّضال التي غصّت بالمتظاهرين في مختلف المناطق، كان النّداء واحدٌ للوصول إلى لبنانَ جديد. حقاً، كانت التحرّكات عفوية في أكثر من مكان لكنّ المُشكلة كانت في ضياعِ الهدف وتشتّت القوى وبروزِ أسماءٍ استغلّت “ثورة 17 تشرين” وتسلّقت على أكتافها.
بعيداً عن “العنتريّات السياسية”، لا يمكن لأي أحدٍ أن يُنكر قوّة انتفاضة 17 تشرين في حرفِ المسار السياسي وتغييره. فمنذ ذلك الحين، كُسِرت الكثير من المُعادلات التي كانت طاغية. فعلى صعيد الحكومات، تبدّل المسار ولو بشكلٍ بسيط، فباتَ الوزراءُ من خارِج النادي السياسي الأوّل، وأصبح النوّاب بعيدين عن التوزير وذلك بعدما كانوا يتمثلون في مؤسستين دستوريتين في آنٍ واحد. كذلك، لا يُمكن أبداً إنكار دور الشارع في تثبيت مُعادلة الالتفات لصوتِ الناس ولحراكِهم، وكان لهذا الأمر الأثر الكبير في الانتخابات الأخيرة رغم المآخذ الكبيرة عليها. كذلك، وجدت الدّول المعنية بلبنان في “ثورة 17 تشرين” أملاً لـ”تغيير معتدل” يؤدي في نهاية المطاف إلى ولادة نظامٍ جديد بعيدٍ عن طائفيّة المناصب واستبداد المكاسِب… ولكن، أين بات الشارع اليوم؟ في أي مرحلة أصبح؟ ماذا بقيَ من 17 تشرين؟
ما يجعلُ الأسف كبيراً هو أنّ الأزمات التي تراكمت منذ العام 2019 كفيلة بتحريكِ الشّارع مجدداً، لكن ذلك لم يحصل. ففي الأيام الأولى للانتفاضة، كان كلّ شيء متوفر، الدولار كان رخيصاً وإن اتخذ مساراً تصاعدياً حينها، الكهرباء كانت تأتي أكثر من 12 ساعة، الأسعار غير مرتفعة، والرواتب كانت “بعدا بتحكي”. أما المفارقة اليوم فهو أن الانهيار بلغ أشدّه، حتى أن الدولارات الـ6 على “الواتساب” التي اندفع الشارع في تشرين الأول 2019 اعتراضاً عليها، دُفعت آلاف المرّات بانهيار متراكم، فباتت غالبية اللبنانيين تعيش تحت خطّ الفقر فيما التحرّكات انطفأت وخفت صوتها.من يرى اليوم ساحات التحركات سينتابهُ شعورٌ من الحزنِ العميق.. أين الناس؟ أين “الثوار”؟ أين الإنتفاضة؟ أين الأحرار؟ حقاً في هذه اللحظة تتردّد كلمات أغنية فيروز الشهيرة: “وينن.. وين صواتن وين وجوهن وينن”.. حقاً “وينن”.. لا أحد هنا.. الكلّ انصرف إلى شؤونه، وما يمكن قوله هو أن إفشال الانتفاضة قد نجح لأسباب كثيرة أولها عدم وضوحِ الأهداف والبرنامج منذ البداية، غياب الوحدة، وتسلّق البعيدين على المشهد، والأهم استغلال السياسة للجميع.
في أيار 2022، كان البعضُ يتمنى أن تكونَ الانتخابات النيابية الأخيرة منعطفاً تغييرياً لإنتاجِ أملٍ جديد ضدّ منظومة متغلغلة في أعماق الدولة. ولكن، ماذا كانت النتيجة؟ نوّاب يتفرقون ولا يعرفون نبض الشارع حقاً؟ كي لا نظلم الجميع، فإن منهم من كانَ في قلب الانتفاضة، لكن البعض الآخر تسلّق على أكتاف المُناضلين والفقراء وبات نائباً في البرلمان بـ”حصانة سياسية” لم تُحدث أي تغيير، لا في الوسط التشريعي ولا حتى في الوسط الشعبي.قد يقولُ البعض.. لماذا تقولون ذلك؟ الإجابة واضحة: الناسُ ما عادت تُؤمن بالحراك والانتفاضة.. نعم، ما عادت تُؤمن.. من سيقنع المنتفضين الحقيقيين بتحركات جديدة بعيدة عن التسييس والاستغلال؟ من سيجعل المواطنين يتحرّكون من تلقاء نفسهم؟ من سيُضحي بوقتهِ من أجل حراك لا نتيجة منه في وقتٍ يسعى فيه لتأمينِ لقمة العيش؟ من سيعيد الثقة إلى مفهوم التظاهر في لبنان؟ هنا المعضلة الأكبر لأن الوسيلة الشعبية الأكثر تأثيراً في العالم، باتت مفقودة وغير محببة في لبنان!
حقاً ما من أحدٍ لديه القدرة على التحرك بعد الآن.. الناس لا تحتملُ الإفقار أكثر، فالشللُ كبير والإنكفاءُ أكبر.. أما الأمر المؤسف فهو أن الذين ادّعوا الثورة تفرّقوا وتشرذموا وباتوا بعيدين عن الشعارات التي رفعوها سابقاً.. والسؤال الذي يُطرح: ماذا حققتم من وعودكم للناس؟ هل قبضتم ثمن السكوت أم آمنتم بأنّ الثورة ليست لكم وأن ما حصل كان “فورة” حقاً؟
ما بقيَ من 17 تشرين الأول هو أمرٌ واحد: لا “ثورة” ولا انتفاضة.. ما بقيَ هو “تخوين الناشطين لبعضهم البعض”، وانكفاء الجميع وإنطفاء الشوارع.. ما بقيَ من 17 تشرين هو “الأطلال”.. ما بقيَ من ثورة الأمس لا يُمهّد لثورة الغد.. حقاً، نحنُ بحاجة لثورة جديدة أبعد من 17 تشرين.. نعم، قد يكون هذا التاريخ البداية، ولكنَ مساره إن تحقق مُجدداً، فسنكون مُجدداً أمام النهاية.. وعندها لا تغيير ولا هم يحزنون.. وعندها لا وطن.. والسلام!
نافذة العرب